(النص في العرض)
إذا كان (النص المسرحي) مقصوداً بكلمة (الكلمة)، فإن (العرض المسرحي) هو المقصود بكلمة (الفعل).
و(الفعل) في المسرح يحمل معاني عدة. فهو- في أبسط أشكاله ومعانيه- مجموعُ الأفعال والحركات التي يقوم بها الممثلون، والتي تبدأ بشرب كأس الماء أو خلع الثوب، وقد تنتهي باقتراف جريمة قتل. وهو الحوار أيضاً. فقد قال النقاد (إن تكلمتَ فأنت تفعل. وإن تذكرت ما مضى فأنت تفعل. وإن بلَّغتَ عن أمر أو رأي أو موقف فأنت تفعل).
[size=12]وهو محصلة تطور أحداث حكاية المسرحية التي تُبنى بالحبكة لتكوين المسرحية مكتوبةً وقابلةً لتحويلها إلى عرض مسرحي. وهو، بهذا المعنى، يشكل العنصر الديناميكي للدراما. وبهذا المعنى أيضاً يصبح (الفعل) مجموعَ الكلام وأفعال الشخصيات. وبهذا المعنى أيضاً يتكون الفعل مما يحدث داخل الخشبة وخارجها.
[size=12]وهذه المعاني جميعاً بتداخلاتها وتعددها تشكل في النهاية ما يسمى (العرض المسرحي). وهو الذي نقصده بكلمة (الفعل) في هذا البحث. فهو جماع المعاني المتفرقة وتتويجها.
[size=12]والنص المسرحي واحد من العناصر المتعددة التي تخلق تلك الاحتفالية الجماعيةَ البناء، الجمعيةَ التلقي التي نسميها (العرض المسرحي). لكنه أخطرها شأناً وأكثرها إرباكاً للقائمين بهذه الاحتفالية وللذين يتلقونها لأنه (كلام) أولاً. والكلام عند البشر هو الذي شكَّل تاريخهم وبنى حياتهم. فهو سلاح الدعوات الكبرى ووقودُ الحروب وسجلُّ الهزائم والانتصارات ووعاء الحضارات. فهو - لكي يفعل ذلك كله - يجمع قلوب الناس ويعيد خلقهم ويدفعهم في دروب كانوا غافلين عنها. وإنَّ أثرَ ضربة السيف يزول، وإن الحروب قد تُنسى ليحل صلحُ المصالح محل العداوات، وإن العواطف والأحقاد قد تزول ويحل محلها نقيضُها. لكن أثر الكلمة يبقى. ولهذا كان الحذرُ من الكلمة والحذرُ في استعمالها من أول المطالب عند من يبغي أن يجني ثمراتها ويتجنب مآسيها. ولهذا كان النص المسرحي من أهمَ عناصر العرض المسرحي وأكاد أقول إنه أهمها.
[size=12]ويزيد من خطره وأهميته وإرباكه أنه (أدب) ثانياً. لكنه ليس أدباً محضاً. وعليه أن يتقيد بأصول التأليف الأدبي وأن يتحاشى التوغل فيها حتى لا تنقلب هذه الأصول على صاحبها. وأول صفات (الأدب) أنه يُكتب ليبقى. فإذا كُتِب النص المسرحي بشروطه التي بيّناها ليبقى، فقد حكم على نفسه بالعيش في مدارج عصره، وبالتخلف عن العصر التالي وبالكمون في المدارج المنطوية في العصور التي تلي. فكأن ذلك هو الموت. فالأدب المسرحي من بين جميع فنون الأدب إذن أدبٌ ناقص. وكمالُه في نقصه. وسر عظمته أنه قادر على أن يقدم نفسه مناسباً للعرض اليومَ ولا شأن لـه بالغد.
[size=12]ويزيد من خطره وأهميته وإرباكه، ثالثاً، أنه هو الذي يقود جميع عناصر العرض المسرحي بقسوة لا رحمة فيها وبحزم لا يمكن الفكاك منه. وإذا به يفرض على الممثلين أسلوب التمثيل وعلى المخرج أسلوبَ وتفاصيلَ العرض. حتى إذا حاولتَ أن تقلب التراجيديا إلى كوميديا، وأن تحول الرجل الشرير إلى رجل خير، فسوف تجد النص المسرحي يسخر منك وهو يفرض عليك مناخه وأسلوبه في مثل هذه العملية الغريبة المعقدة. فإذا أراد المخرج وفريق العمل المسرحي أن يتمرد على سيطرة النص عليه لم يكن أمامه إلا أن يدمره تدميراً كاملاً ويحولـه إلى (كلام حواري) لا يمت إلى النص الأصلي إلا بأوهى الصلات. وهذا أسلوب كثر ركوبه في هذا العصر، كما أسلفنا، فانتفى عن خشبة المسرح ما يُطلق عليه اسم (النص المسرحي).
[size=12]ويزيد من خطره وإرباكه، رابعاً، أنه أكثر عناصر العرض المسرحي قابلية للتخلف عن مواكبة زمن العرض المسرحي. فمن السهل التجديدُ في أسلوب التمثيل والإخراج وبناء العرض المسرحي. ويكفي المجددين أن يستجيبوا للإيماءات الاجتماعية المعاصرة لهم ولدلالات الأفعال التي يقوم بها الناس في دوامة الحياة لكي يكونوا مجددين ومتساوقين مع العصر. لكن تجديد كتابة النصوص المسرحية يحتاج إلى استيعاب الجوهر الفكري للمجتمع، وإلى إدراك فلسفته وإلى التمييز بين ما هو أساسي فيه وما هو ثانوي. ومثل هذا الإدراك قد يغيب عن جيل كامل من كتاب المسرح. وإذا بالخشبة تجد نفسها في يباب من مثل هذه النصوص. فتلجأ إلى بدائله وهو (التوليفات) المسرحية التي ليست أكثر من (الحوار الكلامي) الذي سبقت الإشارة إليه. ولعل هذا واحد من الأسباب التي دفعت العاملين في المسرح اليوم إلى ركوب سبيل تدمير النصوص المسرحية أو الاستغناء عنها.
[size=12]لهذا كله، كان للنص المسرحي على الخشبة تاريخ منفصل عن تاريخ العرض المسرحي رغم التحامه فيه. وهذا التاريخ للنص المسرحي هو الذي يحدد حركة التطور الاجتماعي والسياسي في أمة من الأمم في مختلف عصورها. وهو الذي يفرض على بقية فنون الأدب بعض مساربها بمقدار ما تفرض عليه هذه الفنون كثيراً من تياراتها.
[size=12]ولهذا كله سوف نتناول النص المسرحي من حيث التعامل معه وأثره على حركة المسرح وتأثره بها وبالمجتمع. وبمعنى آخر سوف نتناول الجانب العملي في وقوف النص المسرحي على الخشبة. فكأننا نورد تاريخَ تطور النص المسرحي وأسبابِه ومزالقَ هذا التطور. كما نقف عند الهموم العملية التي يعاني منها العاملون في المسرح. وكأننا نتحدث عن النص المسرحي في مطبخ الشغل المسرحي بعد أن تناولناه في جوانبه الأدبية وأركان تأليفه في القسم الأول من هذا الكتاب. ولا نقصد من هذا أن ندخل في مدارس التمثيل والإخراج التي تطورت وتغيرت حسب العصور، بل نقصد كيفية تعامل الأمم في أجيالها المختلفة معه بغض النظر عن هذه المدارس. فقد تعاملت الأمم مع النصوص المسرحية بما يلبي حاجاتها، وكانت مدارس التمثيل والإخراج وعاء لهذا التعامل. فكما قدمت هذه المدارسُ نصوصَ مرحلتها قدمت نصوص ما سبقها من مراحل.
[size=12]2 - الوَفْق والفرق بين النص المسرحي وفنون التعبير
[size=12]لا يختلف المسرح عن بقية الفنون الأدبية من حيث بناؤه الفني فحسب، بل يختلف عنها اختلافاً بيناً من حيث تقديمه إلى المتلقي. ولا ينصرفنَّ ذهن القارئ إلى أننا نقصد أن المسرح فن معروض بينما بقية الفنون الأدبية مقروءة. فهذا أبسط الفروق وأهونها شأناً وإن كان هذا الفرق غايةَ الغايات في فن المسرح. والفروق التي نعنيها هي في الوقت نفسه أبرز خصائصه.
[size=12]أول هذه الفروق أو الخصائص أن جميع فنون القول تصبح ناجزة في لحظة الانتهاء من كتابتها في حين يبقى النص المسرحي غير ناجز.
[size=12]إن الرواية والملحمة والقصيدة تكتمل باكتمال كتابتها، وتصبح ذات قيمة أدبية فنية بذاتها. فلا يجوز المساس بها أو تغييرها رغم تطاول الزمن عليها. وحين تقرأ الإلياذة والأوديسة أو الشاهنامة أو سيرة عنترة أو ألف ليلة وليلة، فإنك تقرؤها كما كتبها مؤلفوها. وتتمتع بالعودة إلى الحقبة التاريخية التي وصفتها هذه الملاحم. والوشائج بينك وبينها هي الاطلاع على واحدة من حكايات التاريخ. وهذا الاطلاع لا يُقصَد منه التثبُّتُ التاريخي بل المتعةُ الجمالية بالشكل الفني وبالغوص إلى جوانب النفس الإنسانية.
[size=12]وحينما نقرأ (الحرب والسلم) أو (أنا كارنينا) أو (أولاد حارتنا) أو (الوباء) أو (حسيبة) أوغيرها من آلاف الروايات فإننا نقرأ وصفاً فنياً مؤرِّخاً لفترة من فترات شعب من الشعوب قد يكون واقعياً وقد يكون متَخيَّلاً، أو حكايةً لشخصية من الشخصيات الإنسانية في عصر من العصور في بلد من البلدان في حي من الأحياء في عائلة من العوائل. وما بيننا من الروابط بيننا وبينها هو (مراقبة) هذه الفترة أو الحكاية أو الشخصية التي تسعى على الأرض - كما نسعى نحن - حاملةً هموم البشر وطموحاتهم وأهواءهم. وهي مشاعرُ وأهواءٌ ومآسٍ وأفراحٌ إنسانية لم تتغير على الإطلاق وإن تغيرت أشكالُ السعي الإنساني فيها وتلونت في كل عصر بألوان درجة التطور الحضاري، ولبست أردية التقاليد والأديان.
[size=12]وكذلك الشعر.
[size=12]فمعلقة زهير ابن أبي سلمى أو النابغة أو امرئ القيس أو غيرها من قصائد الشعر الجاهلي، تصف موضوعات كانت تشكل عناصر الحياة العربية وتصف أهواء شعرائها من خلال طبيعة المرحلة التي كتبت فيها هذه القصائد. وكل ما علينا أن نفعله هو أن نعرف معاني ألفاظها التي صارت غريبة عنا، مستعينين بمعاجم اللغة. ولا يحق لنا أن نستبدل كلمة من كلماتها التي ماتت بكلمات معاصرة تؤدي معناها نفسه وتقوم بالمهمة الوزنية الموسيقية نفسها. ألا ترى الرواة ومؤرخي الأدب - وهم يوردون هذه القصائد - يذكرون الروايات المتعددة للبيت الشعري الواحد أو الأبيات التي ذكرها هذا الراوي ولم يذكرها ذاك؟ وهم بهذا الإيراد لا يقصدون الأمانة في النقل فحسب، بل يمتنعون عن المساس بالقصائد التي انحدرت إلينا كما هي في مختلف وجوهها. ونحن نتخيل بِرْكةَ المتوكل وإيوان كسرى مع البحتري، ومعركةَ عمورية مع أبي تمام، وحربَ سيف الدولة للروم مع المتنبي. ونفعل ذلك كله بطريقة الاطلاع التاريخي على هذه الأحداث. ونغرق مع أبي نواس في خمرياته وغلامياته. ونتسامى بالحب مع مجنون ليلى في عذرياته. ونجوب آفاق الموضوعات والعواطف مع بقية الشعراء العرب. فلا نجد من الروابط بيننا وبينها إلا الإحساس بالفخر أو الألم أو العذاب أو التهالك على اللذات. وهي مشاعر وأحاسيس نشعر بها ونحن نقرأ هذه القصائد مدركين كل الإدراك أننا (نرجع) إلى زمن مضى ولا شأن لـه بالحاضر إلا ما يكون بين البشر من استرجاع الأحاسيس والعواطف المشتركة.
[size=12]إن الرواية والقصيدة في هذا المجال تشبهان اللوحة أو المنحوتة. فهما تكتملان بانتهاء الفنان منهما. وكلتاهما تحتفظان بقيمتهما الجمالية بذاتهما. والنظرُ إليهما ممتعٌ بما هما عليه من أسلوب في الرسم والنحت وفي مزج الألوان وضربات الإزميل. ولنحذر كل الحذر من تغيير ألوان اللوحة أو تعرجات المنحوتة. ألا ترى في كل متحف من المتاحف اختصاصيين في الحفاظ على هذه الألوان والأشكال من عاديات الزمن؟ حتى إذا أردنا تصوير لوحة أو منحوتة حرصنا أن تكون العدسة المصوِّرةُ أمينة في ضبط الألوان والأشكال. ولنتخيل أن أحداً غـيَّـر بعض ألوان الجيوكندة أو انحناءةً من انحناءات فينوس. فسوف نعتبره مجرما سطا على كنـز من الكنوز، ومحرفاً لآية من آيات الفن. وهو لم يزِدْ على أن جعل الكاميرا تفعل فعلها المحدود في التظليل.
[size=12]لكننا في الموسيقى - وهي فن مسموع - نطلب شيئاً آخر مختلفاً عما نطلبه من الرواية والقصيدة. ونتعامل معها بطريقة مختلفة عن تعاملنا معهما. فنحن نطلب في الموسيقى شيئاً من التحوير والتغيير لأن حسن التلقي للموسيقى يقتضي استخدام الآلات الموسيقية المعاصرة لنا كما نطلب استخدامَ أساليب العزف التي انتهى إليها العازفون. من هنا، وبسبب هذا التحوير والتغيـير نسمع سمفونيات بيتهوفن وموزارت وشايكوفسكي وغيرهم في عدة تسجيلات أدتها فِرَقٌ موسيقية مختلفة بقيادات مختلفة تحافظ على اللحن الأصلي وتُضفي عليه كلُّ واحدة منها عليه تلوينات وظلالاً تختلف بها عن قرينتها كما تختلف عن الشكل الأول الذي كانت عليه يوم تأليفها. وقد نستجيب لإعادة توزيع المقطوعات الموسيقية بشكل يذهب بأسلوب أدائها مذهباً بعيداً جداً عن أسلوب تقديمها الأول أو الثاني أو الثالث. وقد يكون هذا التحوير والتبديل سبباً جوهرياً في إبقاء هذه المقطوعات على قيد الحياة بين الناس على عكس الملحمة والرواية والقصيدة. فإن أي تغيير أو تحوير فيها يقتلها ويخرجها عن إهابها. أما الموسيقى فإن التغيير والتحوير - سواء في أسلوب العزف أو طريقة الأداء - هما اللذان ينعشانها ويبقيانها على قيد الحياة. وكمثال على ذلك لا أظن أحداً اليوم قادراً على سماع دور (أنا هويت) لسيد درويش كما غناه صاحبه أول مرة، أو كما غناه بعد ذلك عباس البليدي ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطي. لكنه سيحس بالمتعة الكاملة حين يسمعه بصوت سعاد محمد الذي أعاد توزيعَه توفيقُ الباشا. وكل الفرق بين هذه الأداءات المختلفة أن توفيق الباشا استخدم آلات جديدة وأسلوباً جديداً في الغناء دون أن يمس اللحن الأصلي أو مواطن ترديد آهاته. لكنه في النهاية أخرجه خلقاً جديداً مسايراً للعصر.وبعد عدة سنوات سنحتاج إلى إعادة توزيع جديدة لكي نستمر في استمتاعنا بهذا الدور الجميل. وكذلك معزوفات محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش نسمعها اليوم على المسارح باستخدام آلات جديدة وبتوزيعات جديدة تحوِّر وتغيِّـر في اللحن الأصلي. وهي تغيـيرات وتحويرات طفيفة لكنها حاسمة لأنها تجعل هذه المعزوفات قادرة على التواصل مع المستمعين اليوم. وسوف نحتاج إلى مثل هذه التحويرات والتغييرات كل حين حتى لا تغيب هذه المعزوفات في طوايا النسيان وزوايا الإهمال.
[size=12]أما المسرح فهو فن مقروء مسموع مرئي. وهذا أولُ جوانب تباينه عن بقية فنون القول ونقصُه عنها. ومع أنه فن مقروء كالملحمة والرواية والشعر، فإنه لا يتم ناجزاً حين كتابته على الإطلاق.
[size=12]إن على الكاتب المسرحي أن يقدم أثراً أدبياً متكامل الأدوات الفنية باعتباره فناً مقروءاً. ولكنه يفعل ذلك تاركاً في استيفاء الجانب الفني فجوات لا يملؤها إلا الممثلُ وبقيةُ أعضاء فريق العمل المسرحي باعتبار ما كتبه فناً مرئياً. ولا يتجلى جمالُه الحقيقي واكتمالُه إلا إذا تحول إلى فن منطوق على اعتباره فناً مسموعاً. ولهذا، فإن المسرح لا يصبح عملاً ناجزاً بعد الانتهاء من كتابته كما تصبح الرواية والقصيدة بعد انتهاء كتابتهما أو كما تصبح اللوحة والمنحوتة بعد الانتهاء من رسمها أو نحتها. بل يصبح ناجزاً بتحويله إلى فن آخر يخضع لمؤثرات الرؤية والسماع. فيأخذ من اللوحة والمنحوتة سمات المنظور في ضرورة انسجام الألوان والخطوط والانحناءات. ويأخذ من القطعة الموسيقية ضرورةَ التأكيد على صحة أصواتِ الآلات الموسيقية العازفة وبراعةَ المغنين المؤدين حتى يبدو الكلام المنطوق مطرباً مريحاً للأذن كاملَ النفاذ إلى العقل.
[size=12]وإذا كانت الرواية والملحمة والقصيدة تُقرأ في كل عصر فلا يضيف إليها القراء في العصور المتتالية شيئاً ولا يحورون منها حرفاً كما لا يضيف أحد إلى اللوحة والمنحوتة خطاً أو تعرجا، فإن المسرح، مثله مثل الموسيقى، يخضع لتطور فن الأداء المسرحي كما تخضع المقطوعة الموسيقية لتطور أدوات العزف وابتكار آلات جديدة واختفاء آلات قديمة. وكما يكون من السخف والضعف أن يغني المغنون اليوم كما كان المغنون يغنون بالأمس بالأدوات الموسيقية التي كانت بالأمس، فإن من السخف والضعف أن نقدم اليوم مسرحية بالأدوات والأساليب التي قُدمت بها أول مرة أو في المرات التالية لها. بل يجب أن يقدم كلُّ فريق مسرحي النصَّ المسرحي بأدوات فن الأداء المسرحي في عصره.
[size=12]وبهذا الشكل يمكننا أن نتخيل الفروق الهائلة بين المسرح وبقية أنواع الأدب والفن التشكيلي. فهي إبداعات لن تضيف إليها العصور شيئاً لأنها ولدت مكتملة. أما المسرحية فيضيف إليها كلُّ عصر أشياء تجعلها تبدو كل مرة في مظهر جديد مغاير لمظهرها السابق. بل إنها تبدو في مظاهر متغايرة في العصر الواحد عندما يتناولها فريقان في يوم واحد من زمان، وفي موضع واحد من مكان. وإذا بها تترك من الإيحاءات والدلالات والإشارات معاني مختلفة وقد تكون متناقضة . وذلك على عكس فنون القول الأخرى وفنون التشكيل. فهي تعطي الإيحات والدلالات والإشارات ذاتها دائماً.
[size=12]وهذه الإشارات والدلالات تمر عبر عقل المتلقي وقلبه فيسبغ عليها
[size=12]ما يتخيله هو. لكن المسرحية لا تمر مباشرة من بين يدي الكاتب إليه كما يحدث في فنون القول الأخرى، بل تمر عبر عقول وقلوب أعضاء الفريق المسرحي الذين يحمِّلونها ما يشاؤون من أفكار ورؤى. ويؤثِّرون على المتلقي تأثيراً كبيراً إذ يفرضون عليه ما يرتؤون. فيقفون بينه وبين الكاتب فلا يسمحون أن يتصل الطرفان اتصالاً مباشراً على الإطلاق. فإذا أراد المتلقي أن يتصل بالكاتب اتصالاً مباشراً كما يفعل مع الرواية والقصيدة كان عليه أن يتحول إلى قارئ. وسوف يتمتع بقراءة (الأدب) وحده. وقد يجد لذة كبيرة في التمتع بجمال الأدب. لكن مخيلته لن تستطيع أن تشحذ سكين خياله على صفحات النص المسرحي. وسوف تقتصر متعته على ذلك الجانب الأدبي وحده. لكنها متعة قاصرة. وسوف تبدو لـه أعظمُ المسرحيات في هذه القراءة المنفردة أثراً عادياً مهما كان النص جميلاً. ولن تقدر أن تمنحه ما تتضمنه السطور المكتوبة من لهيب العواطف وتأجج الإثارة في فجائعية التراجيديا وسخرية الكوميديا ورهافة تصوير الدراما التي تتحقق في العرض المسرحي.
[size=12]ثاني الفروق بين النص المسرحي وغيره من فنون الأدب أن هذه الفنون تُكتب للتأريخ. أما النص المسرحي فيُكتَب للمعايشة. وهو فرق نجده أيضاً بين الفن التشكيلي وبين الموسيقى.
[size=12]والتأريخ هنا يأخذ معناه الواسع وهو القص أو الحكاية أو الوصف لحالة من حالات الإنسان الواقعية أو النفسية أو العاطفية. وهذا الاعتبار هو الذي يجعل الملحمة والرواية والقصيدة تحمل خصائصها التي تحدثنا عنها.
[size=12]ولا شك أن كتاب هذه الفنون الأدبية لا يقصدون أبداً إلى هذا التأريخ الذي أشرنا إليه. بل يقصدون إلى التعبير عن عصرهم لأنهم شهوده. وتكون لهم أهداف فكرية تنصبُّ في عملية بناء مجتمعاتهم. لكنهم - وهم يغوصون في شؤون عصرهم حتى نخاع عظامهم - يكتبون آثارهم بالأسلوب التأريخي الذي أشرنا إليه. ولو رجعت إلى جميع الروايات والملاحم والقصائد في تاريخ البشر، لوجدتها تحمل رسالة فكرية قد يبذل الأدباء دماءهم دونها. ويخوضون معارك عصرهم الفكرية والاجتماعية فيتناقضون مع السائد فيه حيناً ويثورون عليه حيناً. وقد يكون هذا التناقض مع أخلاق العصر ومعتقداته وتركيبته الاجتماعية والاقتصادية. وقد تكون الثورة مجرد تمرد على الوسائل الفنية السائدة لتطويرها وإحلال أساليب فنية جديدة محلها. لكنهم يفعلون هذا وذاك من خلال أسلوب التأليف التأريخي. فالروائي يقدم حكاية يُفترض أنها مضت. ولذلك كان الفعل (كان) مفتاحاً لفن الرواية وإن كانت الرواية تجري أحداثها اليوم. حتى إذا كان الراوي يحكي حكايته الشخصية فإنه لا يكتبها إلا بعد افتراض انقضائها أو اكتمال وانقضاء تخيلها. فيكون الفعل (كنتُ) مفتاح روايته. وكذلك القصيدة. فإنها تحكي حكاية انقضت وإن كان انقضاؤها البارحة أو قبل ساعة أو قبل دقيقة. واستعمال الفعل الماضي هو مفتاح القصيدة. حتى إذا استعمل الشاعر الفعل المضارع أو فعل الاستقبال فإنهما لا يعنيان إلا الماضي. ذلك أنه يصف ما جرى أو ما شعر به البارحة أو العام الماضي أو اللحظة التي سبقت قول القصيدة. ولهذه التأريخية للرواية والقصيدة كان محرماً المساسُ بهما لأنهما تعبير عن حدث مضى وانقضى.
[size=12]أما المسرحية فمكتوبة لتعرض حدثاً نعيشه الآن في اللحظة التي يتم العرض المسرحي فيها. فإذا عرضنا اليوم مسرحية (أوديب) أو (الملك لير) أو (رضا قيصر) أو (الزير سالم) أو (السندباد)، فإن المتلقي يشاهد الحكاية الموغلة قِدَماً في الآن وفي هذه اللحظة. وهو يعايش هذه الشخصيات كما لو أنها تجري أمامه الساعة. والمسرحية في هذا الشأن تشبه فن السينما وتختلف عنه اختلافاً كبيراً. فالسينما تعيد تجسيد الحكاية. أما المسرح فيحييها. والفاصل بينهما أن السينما آلة تدور وتعرض صورة مصنوعة. أما المسرح فيقدم أشخاصاً أحياء يقومون هذه اللحظة بتمثيل الحكاية وشخصياتِها التي قامت بها. ويتماهىالتمثيل إلى حالة التجسيد التي تبلغ ذروتها في اندماج الممثل بالشخصية وفي اندماج المتفرج بالممثل حتى تذوب الحدود بين الماضي والحاضر، وتتطابق اللحظةُ القديمة مع اللحظة الحاضرة. ودليل هذا التماهي الذي يبلغ ذروته في الاندماج أنه مايزال منتهى الإبداع المسرحي وذروةَ إتقان الفن كما هو ذروة التلقي. ودليل ذلك أيضاً أن الدعوات الكثيرة التي ظهرت في الأداء المسرحي للتخلص من هذا الاندماج ولإخراج المتلقي من هذا التماهي - ودعوة بريخت أهمها - لم تقل بإلغاء الاندماج أو التماهي بل قالت بكسرهما والخروج منهما في لحظات معينة من العرض المسرحي. فإذا تم الكسر والخروج عادت حالة المسرح إليهما.
[size=12]مثل هذه الحالة نجدها أيضاً في الموسيقى. فالقطعة الموسيقية، غناء أو عزفاً، ليست إلا معايشة آنية حية بين الفنان وبين المتلقي تضع الطرفين في حالة من الاندماج والتماهي لا تختلف عن حالة المسرح. وهذا هو السر الدفين في أن أقصى تمتع بالموسيقى يكون في الحفلات الحية المباشرة وليس عبر تسجيلات الاستوديو. ولعل أعظم شاهد على حالة الاندماج والتماهي بين المتلقي وبين الموسيقى هو أم كلثوم. وهذه الحالة سر عظمتها. فقد حققت حفلاتها الشهرية تواصلاً بينها وبين الجمهور الذي كان يشاهدها أويسمعها عبر الإذاعة قلَّ نظيرُه في تاريخ الموسيقى العربية والأجنبية. ولم تستطع أغاني أفلامها أو أغاني أسطواناتها أن ترقى إليه. ومثل ذلك حصل ويحصل مع المغنين والفرق الموسيقية التي تؤدي عزفاً حياً مباشر التواصل مع المتلقين. ومن المؤكد أن الناس يطلبون حتى اليوم تسجيلات حفلات أم كلثوم وغيرها من المغنين والمغنيات ويجدونها أجمل من أغاني الأسطوانات وتسجيلات الاستوديوهات. ومع أن هذه الأغاني المسجلة تحقق أعلى مستوى فني في نقاوة الصوت ومهابة العزف مما لا يمكن أن ترقى إليه أية حفلة موسيقية عادية، فإن الناس يجدون في تسجيلات الحفلات ما لا يجدونه في الموسيقى المسجلة. وليس ذاك الذي يفتقدونه إلا المعايشةَ التي تخلق حالة الاندماج والتماهي اللذين يضعان المتلقي في الآنيَّة الحية للموسيقى. فكأنها معزوفة مكتوبة للمتلقي في هذه اللحظة التي يستمع إليها. وليست مكتوبة أو مؤداة من زمن طويل.
[size=12]هذا الذي قلناه عن الموسيقى العربية ينطبق تماماً على موسيقى أية أمة من الأمم لأن الجذر الذي تستند إليه قاعدة التواصل هذه هي حالة الاندماج والتماهي في فن يلتقي مع جانبٍ من فن المسرح وهو أنه فن مسموع. ألا ترى الناس حتى اليوم يسعون إلى سماع السمفونيات في المسارح مع أنها مبذولة في الأسطوانات وأشرطة التسجيل؟ أ ليس هذا السعي لأن الأداء الموسيقي الحي لهذه السمفونيات يعيد خلقها للمتلقي نفسه في لحظة الأداء فكأنها كتبت وعزفت لـه في هذه اللحظة؟
[size=12]3- سمات النص المسرحي وتأثيره
[size=12]مما تقدم نستخلص أول سمات النص المسرحي وهي (المعايشة) بالمعنى الذي شرحناه. لكن حالة المعايشة التي هي أخص خصائص المسرح والتي هي أعظم ميزاته، هي أيضاً صعوبته ومشكلته، والتي كانت السبب في افتقاد كثير من أعظم المسرحيات لأهميتها مع مرور الزمن على عكس بقية فنون الأدب والفن التشكيلي. فالملاحم والروايات والقصائد واللوحات والمنحوتات تحتفظ ببهائها وعظمتها مهما تطاولت عليها القرون. ويطالعها المتلقي كأنها كُتبت لـه اليوم في عصره هو وليس منذ بضعة أعوام أو بضعة قرون. ألا ترانا نقرأ (حرب وسلام)، مثلاً، بشغف وحرارة مع أن بيننا وبينها عدة عقود من السنين، وتجري أحداثها في بلد يبعد عنا مسافات شاسعة، وتدور حول حدث تاريخي مضى منذ قرنين؟ وما أعطاها هذه الميزة إلا أنها تأريخ لأشخاص وأحداث واقعية أو متخيلة. ونشعر بمثل هذه الحرارة في قراءة جميع القصص والروايات والملاحم. ونشعر بمثل ذلك أيضاً حين نشاهد اللوحات والمنحوتات. فهي تنقل إلينا سحرها لأنها (مؤرِّخة) لشخص أو منظر أو مكان (كان) موجوداً في عصر من العصور وفي بلد من البلدان. وسبب هذه المتعة الفائقة أننا نطالع ونشاهد تاريخاً يعطينا كامل ذاته بمجرد قراءته أومشاهدته. ولانقصد أبداً أن نتعايش معه في متطلبات عصرنا.
[size=12]أما المعايشة التي هي الصفة الأولى للمسرح فتعني أنه فن يُطلب منه أن يتحدث عن مشاكل عصرنا وعن همومنا الفكرية والسياسية والاجتماعية والإنسانية بجلاءٍ واضحٍ لا مواربة فيه إلا مواربة الفن. ولذلك كانت (الآنيَّة) ثاني خصائص المسرح. والكاتب المسرحي لا يستطيع أبداً أن يهرب من مواجهة مشاكل عصره الآنية سواء كانت حكاية المسرحية معاصرة استمدها من وقائع الحاضر أم من أحداث الماضي. وحالة التماهي والاندماج لا تكتمل على الإطلاق إذا لم يشاهد المتفرجُ المتلقي ذاتَه وعصرَه ومشاكله وهواجسه على خشبة المسرح أمامه. وبمقدار ما يستطيع الكاتب - ومعه فريق العرض المسرحي - أن يقترب من هذه الآنية ويغوص فيها، يضمن لنفسه النجاح الكاسح.
[size=12]إن هذه (الآنيَّة) ذات سطوة هائلة على الكاتب والمتلقي في آن واحد. ونادراً ما انتبه إليها النقد المسرحي إلا بعمومياتها دون الدخول في تفاصيل أهميتها. وهي التي تدفع الكاتب المسرحي، شاء أم أبى، إلى التقاط مفردات الحياة اليومية في عصره وهو يرسم الشخصيات ويسوق الحكاية بالأسلوب الذي يحبه الناس في عصره من خلال السائدة في بلده. ويحدثنا مؤرخو المسرح أن المسرحيات اليونانية فيها الكثير من الإشارات إلى حوادث وأمازيح كانت سائدة في عصر كتابتها. ولنأخذ هذا المشهد الطريف من مسرحية (الضفادع) لأروستوفانيس :
[size=12]ديونيزوس : بينما كنت في السفينة أقرأ رواية أندروميدا، أحسست
[size=12]فجأة بقلبي يشتعل برغبة كبيرة جداً جداً جداً.
[size=12]هرقل: رغبة كبيرة؟ من أي حجم؟
[size=12]ديونيزيوس: يعني كبيرة بدرجة معقولة. تقريباً من حجم مولون.
[size=12]هرقل: رغبة في امرأة؟
[size=12]ديونيزوس: لا.
[size=12]هرقل: في غلام إذن؟
[size=12]ديونيزوس: أبداً.
[size=12]هرقل: إذن رغبة في كلايستين.
[size=12]و(مولون) هذا ممثل تراجيدي أثيني كان هائل الحجم. و(كلايستين) كان فتى مخنثاً يأتيه الرجال.
[size=12]وينقل إلينا مؤرخو المسرح أيضاً أن مسرحية النهضة الأوروبية نشأت في إنكلترا في حضن الكنيسة حين كانت نقابات المهن تقوم كل واحدة منها بتجسيد قصة من قصص الكتاب المقدس. وإذا بهذه النصوص التي تلتزم التزاما بالقصص الدينية القديمة تنسرب إليها مفردات الحياة اليومية الإنكليزية. وإذا بامرأة النبي نوح تتعامل بالجنيه والبنس والشيلن. وتتصرف مع أفراد عائلتها وجيرانها كما تتصرف المرأة الإنكليزية الشرسة . وما لنا نذهب بعيداً وبين أيدينا نصوص كتاب المسرح العربي والسوري التي إن رجعنا إليها - تاريخيةَ الموضوع كانت أم معاصرته - تقوم جميعُ تصرفات شخصياتها على مفردات تصرف الحياة اليومية العربية والسورية. فهل نطق جابر في مغامرة رأسه إلا بما ينطق به (الفلهوي) المعاصر لنا؟ ومثل ذلك ثابت ومثبوت في (السجين 95). فإنهما من سياسيي الوطن العربي في مفردات كلامهما وتصرفاتهما. وهي مفردات نجدها في (رضا قيصر) التاريخية الموضوع للكاتب علي عقلة عرسان نفسه. وحاوِلْ أن لا تجد مثل هذه المفردات اليومية في (أنتيجون) رياض عصمت أو في (خدامة) ممدوح عدوان فلن تستطيع إلا أن تجدها مادة الشخصيات ولحمة الحكاية. ويمكن القول إن سطوة (الآنيَّة) هذه هي السبب النهائي وراء التغيرات المتوالية التي تطرأ علىأصول فن الكتابة المسرحية. وهي التي يلهث النقاد وراء التقاطها. وإذا بهم يضعونها تحت اسم مذاهب أو اتجاهات أو مدارس مسرحية. وهي الأصول التي يلتزم بها الكتاب في المرحلة التي كتبوا فيها مسرحياتهم.
[size=12]وهذه الآنية لا تنـزلق إلى النص المسرحي من مفردات الحياة اليومية المعاصرة فحسب، بل تمتد إلى جانب أخطر وأخفى هو ثقافة الأمة التي ينتمي إليها الكاتب مضافاً إليها ثقافةُ عصره ومفرداتُ هذا العصر الفكرية والسياسية. ولنراجِعْ مسرحيات شكسبير. فسوف نجد في كلام الشخصيات كثيراً من حكايات الأساطير اليونانية والرومانية القديمة. وسوف نعجب كل العجب إذا تذكرنا أن شكسبير كان كاتباً شعبياً جداً يتوجه إلى الشرائح الدنيا من المجتمع كما يتوجه إلى شرائحه العليا. ولشدة شعبيته كان المسرحيون (الجامعيون) يتقززون منه وينتقصون من مكانته التي لم يعترف بها الإنكليز إلا بعد أكثر من قرن على وفاته. ومع ذلك امتلأت مسرحياته بتلك الإشارات التي لا يستطيع فهمَها جمهورُ اليوم إلا إذا كان عالي الثقافة والمعرفة بإلياذة وأوديسة هوميروس وما تبعهما من الملاحم والأساطير القديمة. فها هو "السير فيرنون" يصف محارباً في مسرحية (الملك هنري الرابع) فيقول عنه:
[size=12]رأيت هاري الشاب وخوذته على رأسه
[size=12]ودرعه الواقي يغطيه حتى الفخذين مدججاً بالسلاح
[size=12]يهب من على الأرض كأنه "ميركوريوس" المجنح(1).
[size=12]و"ميركوروس" هذا من آلهة الرومان. وكان رسول الآلهة ورب المسافرين. وفي (تاجر البندقية) يحاول "سالارينو" أن يستدرج صديقه أنطونيو للحديث عن سبب حزنه فيقول له:
[size=12]وتقول إنك مرح لأنك لست حزيناً.
[size=12]قسماً بجانوس ذي الرأسين لقد صورت الطبيعة
[size=12]من بدء الخليقة أشخاصاً غريبي الأطوار(2).
[size=12]و(جانوس) هذا حارس بابي السماء كما مثلته الأساطير برأسين أو بوجهين يواجه كل واحد منهما باباً. وكان أحد وجهيه باسماً والثاني حزيناً.
[size=12]ولا يكاد "سالارينو" يمضي في الحديث قليلاً مع صديقه حتى يصنف الناس إلى نوعين. فمنهم من يضحك بسهولة لأي سبب. ومنهم:
[size=12]آخرون مكتئبون
[size=12]حتى ليستحيل على شفاههم أن تنفرج عن
[size=12]أسنانهم في محاولة للابتسام لدى سماع نكتة
[size=12]وإن أقسم "نسطور" إنها جد مضحكة(3).
[size=12]و"نسطور" هو ملك بيلوس الشديد التزمت. وكان مشهوراً عند الإغريق بحكمته وحصافته.
[size=12]ثم لا تمضي المسرحية إلى نهايتها حتى تكون قد استوفت من الأساطير القديمة قسطاً وافراً استوفى الكاتب مثله في بقية مسرحياته.
[size=12]إن المثقف العالي المعرفة اليوم،سيجد ضيقاً من كثرة الإشارات إلى أمثال هذه الشخصيات والآلهة في حين كان جمهور شكسبير البسيط العادي يفهمها ويقبلها ويتمتع بها. بل إنه كان يتدخل في العرض ويصحح للممثل لفظه أو معلومته إن وجد فيها نقصاً.
[size=12]مثل هذه الثقافة المعاصرة نجدها في جميع ما كتبه المسرحيون العرب. فلن تستطيع الإيغال إلى مسرح توفيق الحكيم إلا إذا كنت على دراية بنظرة الثقافة الشمولية التي كانت تستمد مصادرها من الغرب الحديث حين كان المفكرون العرب يجدون الاستفادة الكاملة من الغرب طريقاً نحو النهوض. ولن تستطيع فهم مسرحيات علي أحمد باكثير إلا إذا كنتَ على معرفة بالتوجهات التجديدية التي بثها في مصر جمال الدين الأفغاني وتلامذته والتي دفع أحمد عرابي ومحمود سامي البارودي ثمناً باهظاً بسبب الدعوة إليها في الفكر والشعر والسياسة. أما المسرحيات العربية في النصف الثاني من القرن العشرين فقد كانت الوجودية والماركسية والفرويدية حشوها ومنطلقاً فكرياً واسعاً لشخصياتها. ولن تستطيع التوغل في هذه المسرحيات لإدراك مرامي الكتاب منها إلا إذا كنت مطلعاً على هذه الفلسفات.
[size=12]لكن هذه الآنيَّة لا تتحقق للنص المسرحي إلا إذا وُضِعت ضمن بوتقة العواطف الإنسانية الخالدة التي تقوم على صراعات محددة لم يخرج تاريخ المسرح عنها أبداً. وملخصها هو الصراع بين الخير والشر بمعناهما الواسع الطيف الذي يضم كل النوازع البشرية. وحينما يستطيع الكاتب وضع آنيَّة عصره ضمن ديمومة صراع نزعات البشر، فإنه يحقق لنفسه الخلود. فكأن الآنيَّة التي هي آفة فناء المسرح هي في الوقت نفسه جوهرته ودرته الثمينة. فإن المتلقي في كل عصر سوف يجد نوازعه وآلامه وصراعاته مع نفسه ومع نفوس الآخرين متجسدة أمامه في لحظة الاندماج التي تجعله يعيش ما يجيش في نفسه وحياته من عواطف حارة تؤرقه إن كانت معاناة مؤلمة، وتفتنه إن كانت حلماً يسعى إليه. وتدفعه، في كل الأحوال، إلى التفكير العنيف في واقعه الذي يحياه، وتدفعه إلى فعلٍ ما يساهم به في تغيير واقعه وحياته. وهذا يعني أن النص المسرحي يحوي عنصرين متلازمين لا ينفصلان في أي نص مسرحي وصل إلينا منذ ما يزيد عن ألفي عام حتى الآن. وهذان الجانبان هما آنيَّة الحدث بما فيها من مشاكل العصر، وخلود النـزعات الإنسانية.
[size=12]وبذلك تكون (الديمومة) ثالث سمات النص المسرحي. لكنها ديمومة ليست منفصلة أبداً عن الآنية. وتلازم هاتين الصفتين في النص المسرحي جعلت لـه خصوصية عجيبة في تكوينه وأساليب تأليفه.
[size=12]إن الآنيَّة هي التي تؤدي إلى سرعة التغيرات في أصول الكتابة كما شرحناها. لكنها ليست وحدها التي تحكم قواعد التأليف المسرحي. فإن ديمومة النـزعات الإنسانية فرضت على فن التأليف قواعد ثابتة لم تتغير ولن تتغير لأنها الوعاء الذي يضع فيه الكاتب آنيَّة عصره في خلود بقاء الإنسان وبقاء نوازعه الأساسية. وتتجلى هذه القواعد في (الصراع - تصاعد الحكاية درامياً - دقة بناء الشخصيات في تطورها عمودياً وأفقياً). وهذه القواعد نجدها راسخة في جميع المذاهب والاتجاهات والمدارس المسرحية وفي جميع الأشكال الكثيرة التنوع التي دخلها التأليف المسرحي. فكأن هذا الفن بيت ذو جدران قائمة ثابتة لا يمكن زحزحتها أو الاستغناء عن واحد منها. لكن شاغلي البيت يجددون أثاثه ومطابخه وطلاءه وتزيينه باستمرار. فلا يكاد ينتهي واحد من تصميم شكل للتزيين والطلاء وإضافة الأثاث حتى يسارع آخر إلى إزالة ما فعله سابقه ليضع تزييناً وطلاء وأثاثاً تناسبه. وهذه القواعد الثابتة هي التي وقفنا عندها في القسم الأول من هذا الكتاب.
[size=12]والآنية تترك أثراً مرعباً على النص المسرحي. وهي أنه يصبح متخلفاً عن عصره بمجرد الانتهاء من كتابته. فالمشكلة أو القضية التي عالجها الكاتب أو الطموحات التي سعى إلى تصويرها ووصفها اليوم، سيحل محلها مشاكل وقضايا وطموحات جديدة بعد مدة قد لا تزيد عن سنوات قليلة. ولأن الكاتب مضطر أن يكون ضارياً في التصوير، فإن المجتمع البشري لا يكون إلا ضارياً في التغيير. فلا يكون أمام النص المسرحي إلا أن يصاب بآفة التخلف عن عصره شاء أم أبى.
[size=12]ويزيد من التعجيل في تخلف النص المسرحي عن عصره أن الحكاية فيه ليست مقصودة بذاتها فحسب، بل وبمراميها أيضاً. وذلك على عكس الرواية والشعر.
[size=12]فالحكاية في الرواية هي القصد الرئيسي فيها. ومهما ساهمت الرواية في الصراعات الفكرية ، وقدمت صورة للمجتمع في عصرها فإن غاياتها هذه ليست الهدف الذي من أجلها يقرؤها القارئ. لأن القارئ لا يبحث في الرواية عن أهدافها الفكرية في الدرجة الأولى، بل يبحث عن متعة القص وتشويق توالي الأحداث وسرد الوقائع قبل كل شيء. وهذا هو السبب في شيوعها بين الناس. وكثيراً ما تكون الرواية نوعاً من الاستراحة ومن الخلوة مع الذات في متابعة حكايتها. ومن هنا كان منها أنواع كثيرة تلبي كلها هذه الحاجة فقط دون أي هدف فكري ليس مطلوباً في الأصل من الرواية. من ذلك القصص البوليسية وقصص المغامرات و قصص الحب العنيف أو الهادئ. ومثل ذلك الشعر الذي نقرؤه ونحن في حالة من الاسترواح النفسي. وإذا كانت الغايات الفكرية في الشعر أوضح منها في الرواية ودافعةً إلى قراءته إذا التهب بخوض السياسة فإن تلك حالة استثنائية للشعر لا تخرج به في جميع الأحوال عن حالة الاسترواح النفسي.
[size=12]أما الحكاية في المسرحية فليست، رغم أهميتها وأهمية بنائها المحكم ، هي المقصودة من قراءتها - وما أندر قراءتها - أو من مشاهدتها. بل الغاياتُ الفكرية والأهداف الاجتماعية هي التي يجب أن تبرز وأن تُقدَّم إلى قارئها أو مشاهدها جليةً واضحة. وهي المرتكز الأساسي الذي يقصده الكاتب ويسعى إليه المتفرج. وهي التي تحكم في نهاية المطاف على نجاح العمل المسرحي أو فشله.
[size=12]لهذا كان (الهدف الأعلى) واحداً من أخص خصائص التأليف والعرض في المسرح لأنه غاية الغايات في العملية المسرحية كلها. وليس الهدف الأعلى إلا (الفكرة التي أمسك الكاتب القلم لإبرازها) كما يقول ستانسلافسكي، والتي يجب على الممثل والمخرج وجميع عناصر العرض المسرحي أن يبحثوا عنها ويبرزوها وإلا كان مجموع ما عملوه إلى بوار. وهذا الهدف الأعلى هو جوهر المعايشة والآنيَّة اللتين يقصدهما الكاتب ويقصد إليهما القارئ أو المتفرج. ولولا هذا الهدف الأعلى بتجلّيه في المعايشة والآنية لما دخل صالاتِ المسرح أحد. فإن المتفرج لا يذهب إلى المسرح لكي يتمتع بالحكاية في الدرجة الأولى . ويكفيه لهذه المتعة أن يقرأ الرواية في خلوة مع نفسه في بيته. بل يذهب إلى المسرح ليشارك الآخرين في متابعة قضية من قضايا عصره المؤرقة لـه كي يكوِّن لنفسه رأياً مشتركاً بينه وبين أقرانه من أبناء عصره في الدرجة الأولى. وليست الحكاية إلا سلما ووسيلة لهذه المشاركة. وهذا الرأي المشترك الذي يوحي به العرض المسرحي يشكل قوة اجتماعية وسياسية ضاغطة كثيراً ما خاف الساسةُ وأصحابُ الحكم منها. ولهذا السبب نرى المسرح أكثر الفنون الإبداعية تأثيراً في الناس وأشدها تعرضاً للمراقبة الصارمة الخائفة المخيفة، وأكثرها تعرضاً للتحول إلى مطية خانعة لهؤلاء الساسة وأصحاب الحكم. وإذا كانت الرواية قابلة للمصادرة من أجل فكرتها أو من أجل وصفٍ فيها، فإن ذلك لا يحدث معها إلا في الأمور الفكرية أو الاجتماعية الخطيرة. وهذه المصادرة للرواية لا تترك أثرها إلا عند فئة محدودة من الناس. أما العرض المسرحي الذي يساهم في تكوين رأي مشترك فيكفيه أن يتعرض لبعض الأمور الصغيرة حتى يتعرض للمصادرة. ولنا ما يجري مع المسرح والتلفزيون من تعرُّضٍ لأوضاع اجتماعية خيرُ دليل على ما نقول. فكثيراً ما يعرض التلفزيون في مسلسلاته نقداً سياسياً واجتماعياً قلَّ أن يتعرض المسرحُ لمثله. لكن السلطات لا تحاسب هذه المسلسلات إلا بمقدارٍ مع أن الملايين يشاهدونها لأنهم يعرفون أنه لا خطر فيها، ويعرفون أنها سوف تُضحك المواطنَ وتُفرِغُ شحنته السياسية والاجتماعية من غضبها إن كانت هذه الشحنة غاضبة. ولن يتعدى تأثيرُها حالة الضحك الفردي والغضب الفردي. أما إذا تعرض المسرح لبعضٍ من هذه القضايا فالويلُ والثبور لـه رغم أن مشاهديه قليلون. وسبب الويل لـه أنه يساعد على تكوين رأي مشترك قد يتحول إلى فعل جماعي. وهنا الخطر كل الخطر. فإذا صودر العرض المسرحي الجامح كانت المصادرة أشد خطراً لأنها تترك أثرها عند جموع كثيرة من الناس من مختلف الشرائح والانتماءات. وبسبب خطر هذا الرأي المشترك الذي يكوِّنه المسرح فإن رجاله هم الأكثر تعرضاً للمراقبة والمضايقة، وهم الأكثر عرضة للمساومة والشراء من قبل الساسة وأصحاب الحكم. وقد عرف تاريخ المسرح حالات كثيرة من النوعين.
[/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
الخميس مايو 26, 2011 2:12 am من طرف الكينج
» عزاء واجب
الخميس مايو 26, 2011 2:10 am من طرف الكينج
» * تستعد فرقه المسرحجيه لعرض مسرحيه طريق الخلاص اعداد واخراج عادل جمعه *
الأحد أبريل 03, 2011 12:47 am من طرف الكينج
» المخرج عادل جمعه
السبت أبريل 02, 2011 3:23 am من طرف الكينج
» لحظات فى عيون شهداء 25 يناير بقلم / حسين محمود
الأحد مارس 06, 2011 1:06 am من طرف الكينج
» سجين نفسى (( اهداء للصحافة الاعلام المصرى ))
الأحد مارس 06, 2011 1:04 am من طرف الكينج
» يوم الثورة
الأحد مارس 06, 2011 1:01 am من طرف الكينج
» .. الخلطة السرية للوصل الى الديمقراطية
الأحد مارس 06, 2011 12:59 am من طرف الكينج
» النقد المسرحى و مسرح الهواة
الأربعاء ديسمبر 29, 2010 8:57 pm من طرف الكينج
» «مملكة النمل».. يكشف القضية الفلسطينية
الأربعاء ديسمبر 29, 2010 8:50 pm من طرف الكينج
» مسرح الهواة.. الاستراتيجية والمنهج
الأربعاء ديسمبر 29, 2010 8:47 pm من طرف الكينج
» الشافعي يعيد "جمال عبد الناصر" مع "عشاق النيل"!
الأربعاء ديسمبر 29, 2010 8:42 pm من طرف الكينج
» حاليا على مسرح قصر ثقافة السلام
الأربعاء ديسمبر 22, 2010 12:14 am من طرف الكينج
» حصرياً - فيلم الكوميديا الرائع ( سمير وشهير وبهير ) نسخه جديده ts.hq أفضل وضوح - بحجم 200 ميجا - وعلى أكثر من سيرفر
الأربعاء نوفمبر 24, 2010 4:04 pm من طرف الكينج
» بإنفراد تام أسطورة الكوميديا عادل إمام فى فيلم العيد وقبل العيد زهايمير بجودة خرافية وتحميل مباشر على أكثر من سيرفر
الأربعاء نوفمبر 24, 2010 3:57 pm من طرف الكينج
» بإنفراد : نجم الكوميديا الأول أحمد حلمى و فيلم العيد الرهيب بلبل حيران . بجودة High CAM وتحميل مباشر على أكثر من سيرفر .
الأربعاء نوفمبر 24, 2010 3:54 pm من طرف الكينج
» حصريا .. أحدث ألعاب كرة القدم والتاكتيك . Fifa Manager 2011 بمساحة 2.4 جيجا فقط على أكثر من سيرفر
الأربعاء نوفمبر 24, 2010 3:49 pm من طرف الكينج
» لعبة المتعة والاثارة .. Creatures Exodus نسخة فل ريب بمساحة 170 ميج فقط ..
الأربعاء نوفمبر 24, 2010 3:46 pm من طرف الكينج
» لعبة الاكشن والمغامرات الرائعة :: Alien Breed 3 Descent Repack :: مضغوطة بحجم 353 ميجا فقط
الأربعاء نوفمبر 24, 2010 3:42 pm من طرف الكينج
» مسرح الهواة
الثلاثاء أكتوبر 05, 2010 12:59 am من طرف الكينج